كيف يتسنى لي سماع صوتك ولفافات الشاش البيضاء تحجب رأسك ، وأنفك نصف مبتور، ومواسير الأكسجين النحيلة موصولة الى داخل قصبتك الهوائيه، وأنت على السرير بجانبي ،ولم يتبقَ مدخلا شاغرا لحقنة جديدة تدس الحياة في أوردتك، هل أسمك موسى؟ سمعت الممرضات يرمين على بعضهن الحنق والغضب البارحه عندما توقف قلبك عن النبض، كدت تفارق الحياة وأنا أنظر اليك وعيونك الصغيره تستنجد بي، سمعتك تتحدث عن أمك المريضة، وعن السيارة التي دهستك في شارع العوامية،لم تتذكر من كل ما حدث غير مقدمة السيارة وصوت فرامل ورائحة لحمك المحترق، هرب الوغد الذي دهسك وتركك كقطعة شطرنج مائلة تنزف من كل مكان ،حتى الناس الذين تحلقوا حولك سرعان ما تركوك في مكانك خوفا من المسؤولية واستجواب الشرطة ،فيما واحدا منهم التفت إلى جسدك وهو يشعر بتأنيب الضمير ،وأنت تنظر إليه مباشرة في عيونه ،وخطواته تبتعد عن المكان.. هل أفتقدك اصدقائك في المدرسة؟ .. هل بادر أحدهم الى وضع دفتر وممحاة على طاولتك وكرسيك الفارغ؟.. هل يشعر الكرسي بالحنين لتقوس ظهرك وحرارت جلوسك عليه منذ أن دخلنا هذا المستشفى؟.. لم يزُرنا أحدٌ حتى أمهاتنا ! ..رغم أنك تشعر بوجود أمك في المكان أمك التي ارسلتك صباح ذاك اليوم المشؤوم لشراء الخبز، هل كان رغيف الخبز الساخن يستحق هذه المغامرة؟.. قالت الممرضة أنك من عائلة فقيرة تقدس الخبز..وأن والدك هجر البيت قبل أن ينبت الشعر أسفل أنفك ، ذلك الشعر الخفيف الذي يوحي برجولة متفجرة في وجه طفل شبه ميت ،فَقَد شعوره بجسده واقترب من الخلاص البارحة.. صدقني يا موسى حاولت تحريك قدمي لأقترب منك قليلا،لكن السيخ الحديدي المزروع في فخذي والمثبت بمسامير فضيه منعني من مغبة لمس يدك .. هل تؤلمك روحك وهي تحاول التخلص من جسدك ؟..هل تعلم البارحه عندما توقف قلبك عن التحدث إلي رأيت وهجا أعلى السقف وسمعت صوت الملائكة شعرت أنها تحتفي بخلاصك، وكأنها تعلم أن رغيف الخبز الذي انتزعه منك المسعفون وهو مبلل بدمك سيتحول الى أرغفة من رحمة ..يطعمك الله إياها في السماء.. هل تعلم سبب دخولي أنا في هذا المستشفى ؟..لن تصدق الأمر يا موسى ..كنت قبل ثلاثة أيام أحاول التخلص من روحي صعدت إلى أعلى البناية ووقفت على حافة السطح ،تأملت كل شيء المدينة والناس من أعلى ،أحسست بهواء بارد يدغدغ عنقي مرت ذكرياتي كلها أمامي وبوضوح لم أعهده من قبل ،تنفست ذكرياتي بعمق وابتسمت وفردت ذراعي وأنا اتقدم الى الحافة، وضعت قدمي في الفراغ، شعرت بارتفاع جسدي عن البناية ، لمست غيمة خجولة وتذوقت برودتها ، مر كل شيء في لحظات، شعرت بعد هذا بوخزة خفيفة في ساقي .. عرفت أنني ارتطمت بالأرض ودخلت في عتمة.. لم أعرف ما حدث لي فتحت عيناي على وجهك وأنت ممدد على السرير بجانبي ، اعتقدت بداية الأمر أنني نجحت في إنجاز المهمة وحررت روحي من سجنها.. لكن عندما دخلت الممرضة المحجبة تيقنت أنني ما زلت في عالم البشر التعساء.. قلت في نفسي يستحيل أن تتحجب النسوة في الجنة وتحمل الحقن والانبولات الملونة.. لا تقلق يا موسى سنتخلص من أرواحنا في يوم ما ...
.........
فارق موسى الحياة بعد كتابتي لهذا الشيء بساعة واحدة في مستشفى القطيف المركزي.
حاولت إقناع الممرضات أن موسى يتحدث إلي لكن لم يصدقني أحد.
مازالت روح موسى تزورني وتتحدث معي .... كل يوم
.
.
رشدي الغدير
كتب بعد محاولتي الثالثة في الانتحار
r0509932227@hotmail.com