الذي منعك من تمرير وجهك خلال غيمة عابرة

- والدي رحمه الله ابراهيم الغدير عندما كان كاتبا صحفي في جريدة اليوم ياله من رجل وسيم
أيها الواقف أمامي عند رأس السرير تماماً يا أبي .. أنت ميت إلا يجدر بك البقاء في قبرك حتى تقوم الساعة ويبعثك الله مع الفقراء وموظفي القطاع الحكومي و المؤلفة قلوبهم وأبناء السبيل و المؤمنين بقضاء الله وقدره ... فلماذا تترك قبرك كل ليلة لتطارد جيناتك المصقولة في وجهي .. أبي أنت لم تنجب ولداً يكره مرقة الباميا بل أنجبت وجهة نظر لا تنسجم مع هذا العالم القذر ... اليوم في الظهيرة تماماً شعرت بوجودك أيضاً .. عندما طلب مني الشرطي أن أترجل من السيارة ليفتشها بحثا عن سيجارة حشيش ذلك لأنني صافحته بإبتسامة أنيقة وقلت له : أهلا بك أيها الشرطي ...
..أنت تعرف حجم الفداحة في أن تبتسم وقت الظهيرة ... لقد كانت غلطتي ..
...لم يجد الشرطي أي شيء في السيارة لكنه وجد ملامح حزنك في عيوني حتى أنه قال لي : أذهب يا إبراهيم الغدير ... قلت له : أيها الشرطي اسمي رشدي وليس إبراهيم ... قال لي : أعرف.. هيا أذهب يا إبراهيم ...
..شعرت لحظتها أنني دولاب قديم اكثر ما يمكن أن يجدوا فيه هو قميص لرجل مات ولم يعد موجوداً اسمه ابراهيم الغدير .....
فما كان مني غير الذهاب .. وها أنا مستمر في الذهاب ... أبي أريد أن أنام ... عد إلى قبرك أرجوك ... وأعدك أن أستمر في الذهاب وأن لا أبتسم وقت الظهيرة ...مثلك تماماً
.
.
البارحة يا أبي .. البارحة كنت أحضن ذكرياتي في هذه المدينة كأم تحضن أطفالها الموتى ... مستلق على السرير .
.. أفكر ..بعد هذه التجربة الفظيعة من الموت مع الأحياء ..بأن أعيد النظر في قصائدي السابقة كلها .. أن أعيد النظر في تجربتي الشعرية العقيمة كلها .. للحظة أصدق أنني أخرق ..للحظة فقط تتجسد أمامي حياتي الفاشلة كلها دفعة واحدة .. .... أتوقف عن التفكير لأقنع نفسي أنني شاعر عظيم لكن الناس في هذه الحياة الدنيا يستقبلونني في المطار وأنا أهبط من السماء مثل وحي ..لكنهم لا يفقهون لغة الأنبياء المؤجلين ..وأبتسم ... أقول في نفسي : أنا شاعر عظيم و سأتحمل غباء الناس ريثما يبعثني الله إلى أقوام أخرى .....أريد أن أصبح فارغاً ومستعداً للموت فقط .. لكنني أخفي حزني كفتاة خجولة تخفي ملابسها الداخلية وراء الفساتين عندما تنشر الغسيل .. خلسة أبلع ملعقة صغيرة لأحرك دمي ...وأقذف خلفها السكر والشاي والكثير من الصمت يا أبي
.
.
ثمة طاقة حميمة يحسن هذا الكائن بثّها في روحكَ هكذا أتحدث مع نفسي أحاول أختصار الطريق الشائك بيني وبين الشخص الذي يسكنني الشخص الذي لم افهمه قط …ولم أقف على رغباته المحيرة ..إنه أبي ...أبي الذي لم أفهمه قط
.
.
في طفولتي كنت أبكي بصمت مثل البجع كلما ارتكبت حماقة عابرة وسمعت صراخ والدي وهو يبحث عن العسو والعسو هو جريد النخل الملتف المؤلم ولا أعلم إن جاز لي تسميته بالغصن ذو الشجون وكلما جلدني والدي على ظهري بالعسو اصرخ وأجهش بنحيبي المكبوت وأغمض عيوني كنت أتمنى أن أطفو مرتفعاً عن الأرض لئلا أسمع وقع العسو على بشرتي التي ستتلون لعدة أيام بالأحمر الداكن كنت أبكي في فراشي وحيداً وأنظر إلى السقف وأضع أحتمال أن تتحدث معي الملائكة او تنتشلني إلى السماء للجلوس مع الله حتى أبكي بين يديه …وبعد كل هذه السنين مازلت أنظر إلى السقف كل ليلة لكن بالقليل من الإيمان و الشكوى …وها هو والدي يقف عند رأس السرير كل ليلة لينظر إلي ويبتسم دون سبب مقنع رغم أنه ميت .
.
.
كنت أراقب قطرات المغذي و أنظر إلى الأنبوب المنطلق من الأعلى إلى نهاية السلك المغروس في يده فيما يخرج أنبوب من حوالب كليته أسفل خاصرته لينقل البول إلى كيس بلاستيكي يطل باستحياء أسفل سرير ه ..
قال : - أغلب جيراننا في الحارة رحلوا عن هذه الحياة يا رشدي .. المطربين الذين نُحبهم ماتوا أيضاً .. .كنت أستمع له وأهز رأسي وأغمض عيوني وأفتحها حتى يتأكد أنني أفهمه تماماً ...
أردت أن أخبره أن الأمر لا يهمني كثيراً وأنني لا أكترث للموتى و كلما هممت بذلك أشعر أن الكلام عالق في فمي .. فما كان مني غير هز رأسي فقط ..
.قال :- الطبيب أبن ستة وستين شرموطه أقول له خلني أروح البيت مليت من المستشفى يقول أبن الكلب لسه حالتك مش مستقرة .. .
لم أجبه بشيء فقط أكملت هز رأسي بالموافقة على موقفه من الطبيب ومن الغرفة ومن الملل ... فيما راح سؤال يلوكني من الداخل لماذا أنا قاسي جدا عليه ولا أشعر بأي تعاطف معه ... يبدو أن القسوة التي تسلحت بها طوال السنوات الماضية قد تلبستني ولم أعد أشعر بالشفقة على أحد ... لم أبتسم في وجهه منذ عشر سنوات تقريباً ...
قال : تعرف يا رشدي .. لما أطلع من المستشفى ما راح أرجع لها حتى لو أموت في البيت ...
رفعت رأسي ونظرت مباشرة إلى الأسلاك الموصولة في ذراعه بعد أن كنت أختلس النظر إليها كي لا أشعر بلألم الذي يغتصب جسده مع كل نوبة يتلاشى فيها مفعول المسكنات .. أعرفه جيداً ذلك الشعور بالمرارة يا أبي ... وذلك الثقل في الأطراف وأنت تتمسك برغبة العودة إلى البيت وعلى وجهك ابتسامة أنيقة تصلح لكل الأوقات وأعرف جيدا شعورك الذي يبلله الحنين ويتلبسه ويهيجه رغم أمراضك وشيخوختك وضعف جسدك ..وأعرف أنك تشتم الطبيب لأنه يمنعك من تمرير وجهك خلال غيمة عابرة ..وأعلم جيداً أنك سعيداً الآن و تبتسم .....رحمك الله يا أبي ... رحمك الله
أنت ميت يا أبي أرجوك أبق في قبرك أرجوك
.
.رشدي الغدير .....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق