هذا يحدثُ باستمرار.. صدّقني أيّها الطبيب ولا أجد تفسيراً مقنعاً، خاصة عندما أجد وجهي في صحن الزبدة؛ كان من الممكن أن أخسر عيني، هل تعلم؟ كنت مترددا من دخول عيادتك، قلت في نفسي: ما الذي سأقوله للطبيب؟ هل سأخبره عن الكدمات والخدوش التي أجدها تلون جسدي كلما استيقظت من النوم ولا أعرف كيف أصبت بها؟ ماذا عن الأوراق والبطاقات الشخصية والفواتير القابعة في جيب ثوبي ولا أعرف مصدرها ولا أتذكر كيف وصلت أو متى وضعتها أو من هم أصحابها .. هذا محيّر!
يحدث كثيرا أن تتصل بي فتاة تقول أنها تعرفني وأنني كنت معها البارحة في الليل وأنا أقسم لها أنني لا أعرف رقمها ولا أعرفها ولم أقابلها في حياتي، حتى المال يختفي من محفظتي ولا أعرف كيف يتبخر..
أعلم أنني أشخر مثل بعير على السّرير.. تبدو الحقيقة مخيبة، يحدث كثيراً أن أسقط منكباً على وجهي لفرط تقلبي المستمر، ودائما ما أحلم أنني أصعد درجا ما؛ لذلك فرجلي تتحرك وأنا نائم، ثم أصل إلى أعلى الدرج لأستيقظ وأجد نفسي في المطبخ عارياً ومستلقياً تحت الثلاجة!
جربت أن أربط رجلي إلى السرير.. لن تصدق ما حدث، استيقظت ووجدت أنني كسرت الأعمدة تماماً، هل أنا مريض أم ماذا أيها الطبيب؟!
في إحدى المرات ذهبت إلى مطعم أبو نواس في الشارع التجاري، قال لي المحاسب أنني لم أنتظر البارحة لأستلم طلبي، أجبته بأني لم أكن في المطعم البارحة فضحك بوجهي وقال: أنت حر لكن لا تدفع الحساب لطعام تطلبه ولا تأخذه. ثم أعطاني ستين ريالاً وقال: هي لكْ، أقسمت له لكنه رفض تصديقي..
أيها الطبيب أنا أشعر بالخوف لمجرد محاولة تفسير ما يحدث لي، قبل ثلاثة أيام استيقظت من النوم ووجدت رسالة في جيبي مكتوبة بنفس خط يدي وموجهة إليّ وبأسلوب أدبي رفيع، أعجبت بها جدا وأحضرتها معي، لم أتبين من كتبها هل أنا أم شخص آخر، ومتى كتبت وكيف وصلت إلى جيبي، حتى أن الورقة كان عليها بقع صلصة الطماطم ورائحة الزبدة وموقعة باسم الآخر! صدقني أيها الطبيب برغم كل اعتقاداتي الخاطئة إلا أنني أفسح زاوية ضيقة في عقلي ولا أصل إلى تفسير محدد .. حتى سيارتي كل يوم أجدها مركونة في مكان مختلف وعليها الوحل والغبار برغم أنني لم أحركها من مكانها؟! .. دائما ما أعتقد أن شخصاً يسرقها وأنا نائم لكن الغريب أن مفاتيحها في جيبي دائما .. أشعر بالحيرة أيها الطبيب!
الطبيب : حسناً يا رشدي الغدير هل يمكنك إخباري عن طفولتك قليلا.. عن مخاوفك .. هل كانت الكوابيس تطاردك في نومك، هل كنت تتحرك وتمشي وأنت نائم؟ هل أخبرتك والدتك عن شيء غريب يحدث لك في الليل؟
أيها الطبيب النبيل سيذهلك إن قلت لك أنني لم أكن احلم في طفولتي، كنت أهس في نومي بصمت مثل جذع شجرة مقصوفة، مثل متراس مرمي في ساحة المعركة ولا أحد يهتم به، مثل حفرة لا يقع فيها أحد، أغمض عينيّ وأغرق في سواد الشيء ولا أحلم أبدا..
لم أكن أحمل حنيناً غير معلن لعالم غير موجود، ورغم هذا كنت مخلصاَ جداً للخدر الذي ينتابني، لكنّ أمي كانت تحدثني عن هذياني وتحركي وتجولي في البيت وأنا نائم، قالت أنني كنت أقوم بالليل وأقف قرب السرير أراقبه وأبتسم .. مثل روح تلقي على صاحبها السلام، والطريف أنّ جدتي أخبرتني فيما بعد أنني كنت أمشي إلى غرفتها وأنام مثل قط تحت سريرها، كانت تتركني لنفسي .. أخبرتني أيضا أن الجن يلهون بي كلما تم تلبس جسدي وأنا نائم.
أمي لم تكن لتترك ولدها السمين للجنّ، أخذتني إلى الشيخ جدعان الدوسري رحمه الله ليلون جسدي بخطوط مستقيمة بعصاته الملتوية وهو ينفث الماء والزيت في وجهي، كنت أبكي لفرط الألم وهو يصرخ بي: أخرج يا عدو الله أنا عبد الله، وأنا أرد عليه: أين أخرج ولا أبواب في الجوار، لولا تدخل والدي ومنع الشيخ من ممارسة ساديته الشرعية لكنت عجينة لزبة لشخص يشبهني.
كنت أخاف من كل شيءٍ ساكن لا يتحرك أيها الطبيب، أخاف من الكراسي، من الشجر، من النوافذ .. أعتقد أنني كنت أخاف من الصمت الكامن في الأشياء حولي..
قبل أن أتحول لشاعر يمارس صمته الأبديّ كنت أهرب إلى الكتابة كلما صفعني حدسي المفرط بالتكهن، أذكر أن الشاعر الألماني "غوته" قال ذات مرة: "لكي نحسن كتابة بيت واحد، يلزمنا أن نحلم به" لكني لم أتفق مع "غوته" في هذه الحكمة، فأنا شخص لا يتقن الحلم ..
هل تعلم أيها الطبيب النبيل كنا ونحن أطفال في المدرسة نرتعش لفرط الخوف من مدرسنا الوغد اسمه أستاذ عادل، كان ابن الفسق يخرج لنا شيئه المتدلي ويطلب منا لمسَه وتحسُّسَه، وإن رفضنا طلبه كان يعذبنا .. يضع القلم بين أصابعنا الصغيرة ويضغط ثم يضغط .. ونحن نبكي، في النهاية كنا نسْتسلم لرغبته ونمسك قضيبه البشع بالتناوب، حتى جعَلنا نشعر أنّ قضيبه مادة مهمّة في المنهج، كان يحذرنا من حماقة إخبار أولياء أمورنا بهذا السّر، نعمْ .. كان يسْميه السّر.. ، السّر الخطير!.. هل تصدق أيها الطبيب النبيل أننا كتمنا السر لفرط رعبنا حتى تم نقله من المدرسة بعد أن منحته الإدارة جائزة أفضل مدرس؟! تصور ابن السخط هذا هو أفضل مدرس!! ..
الطبيب : هل يمكنك أن تحدثني عن مشاعرك العاطفية عن الحب مثلا يا رشدي الغدير؟
أيها الطبيب النبيل، لا أجدني منسجما مع استعمال تعبير مشاعر عاطفية عندما يتعلق القول عن لحظة الحب ..، اكتشفت هذا مؤخراً أنني شخص لا يعرف كيف يحب ولا يحمله شوق لأنثى بعينها، قد لا أفهم الأمر بوصفه أزمة وجودية بيني وبين الحب، كنت أظن أن دلالة الحب تحمل غالبا معالم غير واضحة أو مكتملة المعنى، فمثلا لفرط تداول كلمة الحب أصبحت أقع في خلط مبهم بين اشتياقي لجسد أنثى وتوقي لروحها .. لكني أنا شخص يصعب احتماله من قبل الأنثى وذاكرتي مشحونة بلحظات الهجر والنسيان ..
أعترف لك أنني وقعت في حب نساء كثيرات .. أكثر مما تتصور، كان يصدر صوت في داخلي، صوت لا أعرف مصدره يوبخني ويشوه صورتهن في خيالي ، وسرعان ما أستسلم للصوت .. وأهرب بعيدا مثل وغد يركل احتمالاته ويضحك .. كنت أمزق أرواحهن بالفراق والغياب المتعمد، كنت أشطر قلوبهن بفجيعة مخبوءة، أسمي نفسي بنمر النهد وتيس الفحولة، فيما أخفي عنهن خدوشي الصغيرة .. أحيط روحي بسياج منيع من الصّمت حتى لا تظهر نقاط ضعفي جلية، وأنا معهن كنت أعامل الحبيبة على أنها مشروع مستقبل فاشل يجب الخلاص منه سريعا ورميها في دهاليز النسيان ..
هذا لا يعني فشلي تماما في كل المغامرات الغرامية، ثمة واحدة فقط استطاعت جعلي أطوي المسافات من أجلها .. هي أنثى حقيقية والبقية زيف ..
وحدها تمكنت من جس الشريان الضعيف في روحي، وحدها صفعتني بالحب واستحلبت فمي وعلمتني كيف أختصر الطريق إلى برزخ الفرح .. وحدها حولتني إلى شخص لا أعرفه، شخص يحب الهدية ويهدي والدته زجاجة عطر .. وحدها أسكتت الصوت الموبخ في داخلي، لكنها هجرتني! ..
ابنة الرحيل تركتني مثل طفل مشوه في مزبلة مستشفى الولادة، عاقبتني بتخبطي المستمر، وحتى هذه اللحظة أيها الطبيب أشعر أنها موجودة في مكان ما .. ربما منطوية مثل درزينة شهوة تحت حرارة رجل آخر، رجل يغرس قصبته في رحمها ويجعل ذاكرتها بيضاء، يمسح الأسماء ويدهلز الشوارع بجسدها، رجل وقح وأحمق وقبيح .. ربما ضربها على مؤخرتها كلما نطقت حروف أسمي..
أيها الطبيب بدأت أكرهك، الآن عليك أن تخبرني هل أنا مريض هل أعاني من شيء ما؟!
الطبيب : نعم يا رشدي من خلال كشفي على حالتك أعتقد أنك تعاني من حالة اضطراب نفسيّ نسميه المشي أثناء النوم، ويتحدد هذا الاضطراب بأنه يحدث خلال الثلث الأول من الليل في مرحلة النوم العميق حيث يصحو المريض جزئياً ويقوم ببعض التصرفات والحركة والمشي .. ومنهم من يذهب إلى الحمام للتبول أو ينزل على السلم أو يذهب إلى المطبخ ويأكل، أو يفتح خزانة الملابس ويمكن له أن يخرج خارج المنزل. وفي حالات نادرة يمكن أن يقوم بأعمال معقدة مثل حالتك أنت، فأنت تقوم بقيادة السيارة والذهاب إلى المطاعم ومقابلة النساء والتحدث مع الناس وكأن شخصا آخر يسكنك، هذا كله مرتبط بطفولتك المعقدة وربما كتابتك للشعر هو عقلك الباطن الذي يستغل نومك فيتحكم بجسدك ويجعلك تعيش شخصية مختلفة عن شخصيتك الأخرى.
حسناً أيها الطبيب، هل هناك علاج محدد لحالتي هذه؟ أكره أن يتحكم بجسدي عقلي الباطن هذا، رغم أنني لم أنتبه لوجوده، كيف له أن يفعل بي هذا؟!! هل يمكنك تخليصي منه أو نزعه من داخلي؟ أريد أن أعيش مثل كل الناس بدون أشياء غامضة تحدث لي، طبعا هو ليس جنياً .. صحيحٌ لطالما اعتقدت أن الجن مخلوقات ضعيفة وغبية لا يمكنها كتابة الشعر أو البحث عن حلول، هل هذا صحيح أيها الطبيب؟
الطبيب : نعم يا رشدي الغدير هو ليس جنياٍ أو جنية استنادا إلى الرسالة التي كتبها لك حتى أن لغتها غير مفهومة لي وكأنه؛ أقصد عقلك الباطن أو كما يسمي نفسه في الرسالة رشدي الآخر يحاول التواصل معك عن طريق الكتابة، ويبدوا أنه يرغب حقا في أخذ حيز من حياتك الواقعية، أو لعله يريد الظهور في يقظتك ومشاركتك الحياة، دعني أصدقك القول طوال عملي كطبيب لم تمر علي حالة مثل حالتك وأنا مهتم لعلاجك، سأعطيك حقنة تجعلك تسترخي وستنام هنا على سرير العيادة ثم سأحاول مخاطبة عقلك الباطن الذي يكتب لك الرسائل ومن خلال تواصلي معه سأجد لك طريقة للتخلص منه.
بعد ثلاث ساعات استيقظت من النوم ووجدت الطبيب في زاوية العيادة ينزف الدم من رأسه وكل الأشياء من حوله مبعثرة، كما أن ثيابه ممزقة فصرخت اطلب النجدة ولكن وجدت أن الممرض في الخارج قد هرب وترك باب العيادة مفتوحاً، رفعت السماعة لأطلب الشرطة لكن أسلاك الهاتف كانت مقطعة كما أن شاشة الكمبيوتر مكسورة.
ذهبت إلى الطبيب ورفعته من الأرض.. فتح عينيه وهو يصرخ: أرجوك لا تضربني، أرجوك، قلت له: ولماذا أضربك؟! هل أنا مجنون؟!! قال لي: من أنت هل أنت الآخر أم رشدي؟ قلت له: أنا رشدي ومن هو الآخر هذا؟
أخبرني الطبيب بما حدث ..
بعد أن أعطاني الحقنة ذهبت في نوم عميق على سرير العيادة، كنت أتقلب كثيراً وأنا نائم كما يقول الطبيب الذي كان يسجل ملاحظاته على ورقة، وبعد ساعة تقريبا إذا بي أقف على قدمي وأذهب صوب الطبيب، يقول الطبيب أنه اعتقد أنني صحوت من النوم لكنَّ ما حدث أنني لم أكن أنا، بل الآخر الذي يسكنني..كان وجهه فارغ من التعابير الإعتيادية البشرية
أمسك الطبيب من ياقة قميصه ورفعه إلى أعلى وهو يقول له أيها المخنث هل تحاول طردي من الداخل؟ قال له الطبيب أنه يرغب بالتواصل معه لكنه سدد لكمة مباشرة في وجه الطبيب ورماه إلى زاوية العيادة وقام يحطم الأشياء ويصرخ ويشتم كل شيء ويهدد الطبيب بأنه سيقتله، ولما دخل الممرض الذي حاول حماية الطبيب أمسكه أنا الآخر ووضعه على الأرض وقام بصب لكماته المتتالية عليه، وبعد أن حطم كل شيء وقطع أسلاك الهاتف وحطم الموبايلات؛ جلس قريبا من الطبيب وأخبره أن اسمه هو الآخر وأنه من سلالة الموت والعصيان وأنه كان يستمع إلى كل الحديث الذي دار بيننا ولحسن الحظ أنه بمزاج جيد وغير مستعد للقتل، أخبره أيضا أن رشدي الحقيقي جبان وضعيف ولا يعرف كيف يأخذ حقه من الدنيا وأنه غارق بالعمل المستمر وهو الوحيد الذي يمكنه حمايته، وهدد الطبيب بأنه سينتهز فرصة نوم رشدي الحقيقي ويأتي إلى العيادة ويقتله بفصل رقبته عن جسده لو حاول علاجي أو طرده من داخلي..
بعد أن أخبرني بهذا؛ طلب مني الطبيب أن اخرج من العيادة وأن لا أعود أبداً..
.
.
.
اللعنة على الآخر الذي يسكنني .. كم أكرهه!!
----------