لقد عمّرت طويلاً حتى صرت أخشى ألا أموت
في المستشفى طلبت من الممرضة القصيرة أن تسجل وصيتي على فخذها الأيمن ... لكنها رفضت رغم أن فخذها يصرخ بي : هات وصيتك يا غدير ... لقد كانت وصيتي سهلة وبسيطة وسريعة وغير مكلفة .. وهي أن يتم دفني في أي قبر متاح لكن بالشكل المقلوب أن يكون وجهي إلى الأرض وظهري إلى السماء ... وبعد إهالة التراب علي .. ينفض الجميع أيديهم ... ويعودون إلى حياتهم السافلة دون الحديث عني ....
.
.
أعطتني اخصائية التحليل علبة بيضاء لها غطاء شفاف قالت : لو سمحت ضع خرائك في العلبة ... حتماً إنها سخرية مفتعلة لا تفسير لها .. أن أصادف أجمل فتاة في المستشفى لتطلب مني خرائي ... لقد أصبح لخرائي قيمة .. لطالما كنت أتعامل مع خرائي المهم دون وعي ودون اكتراث ... وبفرح تغمره مشاعر الدهشة رحت أضع خرائي القليل في العلبة وأنا أعد المفردات السحرية في رأسي ...
سأقول لها :
أيتها الرشفة المنسية من كأس النارنج هاكِ خرائي الساخن الجديد ..
لا لا .... سأقول لها :
يا حفيدة الأهازيج النادرة يا فاتنة العيون العسلية تفضلي هذا خرائي المتواضع داخل العلبة ...
لا لا .... سأقول لها :
لقد عانيت جداً وأنا أعتصر امعائي من أجل إسعادك بخرائي المتماسك يا تميمة المسك الممسوك في غياهب الأحلام المزركشة ...
.سألت الموظف عن الفتاة التي أعطتني العلبة قال إنها غادرت قبل قليل .. أصابني الحزن وجلست على الكرسي بجانب خرائي تماماً ...
.
.
قبل خروجي من المستشفى طلبت من الطبيبة أن تدحش إصبعها في طيزي وتعد حتى الـ 45 ، أو دو، ري، مي، فا .صول... لتتأكد أنني غير مصاب بالبواسير .. لكن الطبيبة الفاتنة ضحكت و قالت لي : لماذا تقول أمراً بذيئاً كهذا؟ سمعت الممرضات يقولون أنك شاعر ... أخبرتها أن الممرضات أصابعهن غليضة ومؤلمة وأنني بتلقائية لا أعرف مصدرها أصرح عن الأشياء التي تختلج في نفسي خاصة عندما أكون سكراناً او مصابا بالحمى ... قالت الطبيبة : لا تقلق سأرسل لك من يمكنه فحص طيزك بشكل جيد ... قلت لها شكرا لكِ أيتها المقوسة من كل الزوايا ...وبعد عشر دقائق دخل الغرفة دكتور قبيح الخطوة رخيم الظل رائحة الحقن تفوح من فمه قال لي : هل تشعر بالم في طيزك .. قلت له : أنا بخير وطيزي على ما يرام ...فقط أغرب عن وجهي ثكلتك أمك أيها الطبيب ....
.
.
تماماً كما كنت أظن كل شيء رتيب ونمطي وعادي جداً في هذا اليوم كل شيء حدث كما خططت له تماماً ... وجهي تجمد على ابتسامة ساذجة وكل امنياتي لم تتحقق بعد ولا اعتقد ان ثمة وقت لتحقيقها رجل مثلي يثقل الخطوة نحو الخمسين بأحلام قليلة وطموح متلاشي كما انه يعاني من النقرس ويضع في جيبه درزينة حبوب وادوية لا يعرف اسمائها ولا يهتم بتاريخ صلاحيتها ... يعيش يومه كيفما اتفق ...
.
.
للأسف أيها النبلاء .. أنا بخير .. ما زلت أتنفس كما تتنفسون يا أبناء البشر الضعفاء ...لم يتوفاني الله كما كنت أظن .. لقد عمّرت طويلاً حتى صرت أخشى ألا أموت ...
.
.
رشدي الغدير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق