Translate

الأربعاء، 18 مارس 2009

السرير

رشدي الغدير


سيشي بنا السرير
لفرط ضيقه بنا
لفرط قلقه بلقاءٍ قادم
اقدامه مغروسة حتى الكاحل
كلما انهار عليه جسدي
يُدير رأسه بغطرسة من يحكم المكان
يقولُ لي … من انت ؟؟
اقولُ لهُ … انا رشدي ..
يجيبُ كمن يسقط الدين …
كمن يعتق الرقاب …
متبجح هذا السرير كمن يُنشأ النخل والليل بين يديه
يقولُ لي … اعرفك
تتثاءب قبل النوم وبعده
تنهرُ النهد ….
كي لا يغفل عن وتر الاصابع
كمن يحبس شهوته في يده
تداعب ازرار القميص
فتهرب منك بنعاس الحياء
يُرجعها طيش الماء ودغدغة انسيابك إليها
تنتخب لك اكثر الشراشف خجلا
اسمعها تردد في خوف البكارة :ماذا تريد مني ؟؟
وضعتُ لك الحب في اقداح السهر
تمرغت لك في وردة الصوت
كسرتُ الليل وطردتُ النهار
تلقيتُ صفعات البيت
شك الناس
كرههم وشتم عيونهم من اجلك
انت تمد اليها مفاتيح الشبق
يشتعل نيزك جسدها
ترتعش اطرافها … تحاول بتر نفسها
توغلُ في شعوذتك
تقدم لها شجرا يختزلُ الغواية
ويكتنزُ العناصر
ترغمها بغبضتك وصفعاتك
تفتح نوافذها لقطك الاعور
يدخل …يخرج …يدخل….يخرج
هذا القط يستبيح البيت والغرفة
يحول النحاس الى ذهب
والذهب الى ذهب يشبه النحاس
يشتعل ويشعل معه الطريق
يبعث اسلافه للبحث عن قطتها
اختبر فصاحة اللغز
وبراءة الثعلب
وغباء الضحية
يسيل الدم من النافذة
تبكي المسكينة
فيما تتحول انت الى حيوان اخر
تصر على اكمال الطريق
والدهشة في شرايينك
المسكينة لونها ذابل مثل طفلة مخطوفة
وكأني انا السرير اصبحتُ الكفن والتابوت
وانت اخترقت الخوف بسرب من النوارس الناعقة
ترعف هذه المسكينة
انت تخطط لهجوم اكثر نعومة 


وانا اتمنى  ان تحول من سرير ٍ الى سكين تفلقُ رأسك وتستقر في قلبك
من سيغفر لي انا السرير
صمتي مثل خيل الدم على بياض اسمالي
رشدى الغدير

“شهادة السرير” تشكلٌ لغويٌّ مختلف، يُبرزُ إشكالية دور الأدب و الاديب و علاقتهما بالحياة في إطار التصوير الفني للتجربة الإنسانية التي يعيشها إنسان ُ رشدي الغدير في صراعه ضد الحياة/المؤسسة التي تضجّ بما يشبه النبض، و إن كان صخب تماسٍّ عابرٍ بين موجوداتها دونما تأنسن ٍ أو تجوهر بشريٍّ ما في خدمة قضية ما، و إن كان لرشدي الغدير من فضل، فإن هذا الفضل يكمن في كونه يكشف عن المستور فيها و بلغةٍ شاعرية و فنية ٍ عاليةٍ.
السؤال الذي يطرح نفسه في مداخلة جمالية مقاربة لنص ” رشدي الغدير ” هو في جدلية علاقة أناه بالحياة نفسها، وهل يكتب تجربته؟ أم إنه يكتب ليفضح زيف مجتمعٍ ألبسه رداء الفضيلة دونما رغبة منه في تقليده و التقيد بمقتضيات التعبير الفضائلي الاخلاقي فيه؟. و هنا نجد أنفسنا أمام إشكالية كون الأدب أخلاقيا ً أم أنه يجب أن يعبّر عن الحياة بما فيها من شر و خير معاً؟.
“شهادة السرير” هي قصيدة التفاصيل التي تحيل السرير شاهداً على معاناة إنسان في انفصامه و تشظيه بين مراعاة المقام بمقال ٍ لا يفصح إلا عن القليل من الرفض لموروثٍ قيميٍّ فائق القدرة على الإيحاء بالرغبة ، و القمع لها في الوقت ذاته.
معاناة ٌ بشريةٌ وجوديةٌ يحاول “رشدي الغدير” أن يجد لها حلاً بتفوقه بالرؤيا على الرؤية الضيقة و قصور البصر عن بصيرة الدلالات البعيدة الخافية عن ذاتها في لعبة التخفي خلف إصبعٍ لا يخفي عورة ً، بل يوحي بالكشف عنها و فضحها/ فضح هذا الشرق المسكين، المقموع بالخوف و سرب النوارس الناعقة، “أصبحتُ الكفن و التابوت/ و أنت اخترقت الخوف/ بسربٍ من النوارس الناعقة”.
الشاعر في نص “رشدي الغدير” يمتلك قدرة فائقة على خلق الصورة و التفنن برسمها، بأبعادها و ظلالها و أشكالها. صورة السرير التي تكتمل بالرجفة، الرعفة. صورة السرير القاتل المسؤول عن كلّ ما اقترفته البشرية من جرائم عبر تاريخها الحافل بالخطيئة منذ السرير/الأرض في تشكله البدائي الأول و ضرورة الأفعى فيه.
مفارقة مكانية بين مكانين مختلفين، المكان الأول : مكان الـ ما قبل / السرير المانع، المكان الثاني: مكان الـ ما بعد/ السرير الجامع، يطرحها الشاعر ليؤكد فرادة المقدرة الفنية الشعرية على الصهر بين مختلفين في خارج/ المتوحدين في داخل،” سيشي بنا السرير — > أنا السرير (مرّتين) — > تتمنى أن تتحول من سرير … “.
في العلاقة الأرقى و الألذ و الأجمل بين الرجل و الأنثى يصير السرير بحجم العشق، منهمرا ً مع مائها السماوي كقطرة من ذهب، ليشتعل بها و ينطفئ كتابوت ينال بموته براءته من دمها، و يعلن براءة الثعلب/ الشاعر من أنا السرير في غوايته لهما و دهشة عينيه، “يحول النحاس إلى ذهب/ الذهب إلى ذهبٍ يشبه النحاس/ يشتعل و يشعل معه الطريق/ و الدهشة في شرايينك”.
السرير جارحٌ كسكين، فاضحٌ لخفايا هذا اللقاء بينهما، يشترط عليهما الرقباء ألا يكونا طبيعيين و إن حاولا. فأعين الرقباء التي تلاحق زقزقة العصافير في سرير الورد، تلاحق حبيبين كملاكين يفردان أجنحتهما اتساع الفضاء و حدّ امتلائهما بالرغبة التي تنضح عرقاً من عسلٍ و لبنٍ، ” تلقّيتُ صفعات البيت/ شكّ الناس/ كرههم وشتم عيونهم من أجلك”.
يتسلّح “رشدي الغدير” في نصّه بالميثولوجيا، كنصٍّ دينيٍّ مقدّسٍ، كما في نشيد الإنشاد السومري، و تخاطب الحبيبين بلغة العشق التي تشبه الهمس، أو هي فعل التوحد فلا أنا و لا أنت، كأننا واحد في سرير، كأننا هو في دهشته أمام عرينا، “يقول لي ( وردت لفظة الفعل مرتين)/ يجيبُ/ أقول له/ يُنشئ النخل و الليل بين يديه”.
يؤنسنُ “رشدي” السرير ليعادل فعله في الإثم/ اللذة. يحتفي السرير به وهو بالسرير المتواطئ في لغته التي هي تماسُّ الكلام، امتزاجه في بعض، انصهار حروفه حين لا تقوى على حمل وهج المعنى، “النخل/ الليل بين يديه/ وتر الأصابع كمن يحبس شهوته في يده/ وضعت لك الحب في أقداح السهر/ تمرّغتُ لك في وردة الصوت”.
هي اللغة المكتملة في فعلية الحركة إلى أمام، إلى داخل، بعمليةٍ تشبه الانسياب لا الاقتحام،” تهرب منك بنعاس الحياء/يرجعها طيش الماء/ دغدغة انسيابك إليها”.
الحركة التي تجرف، تسيل نهراً يسيرُ تواً إلى غايته بمفاتيح شبقها، و لذة الحياء المتردّد في نبرة صوتها الهامس بأن “تعال”، بصيغة السؤال الإنكاري، ” ماذا تريد مني؟” وهي تعلم وهو يعلم، و الجمعُ غريبٌ في تطفّله الفضولي على قلبيهما.
“يدخل … يخرج “، خائفٌ هو في ارتكابه العشق، ومترددةٌ هي في قبوله قطّ نافذتها اليتيمة، المشرعة على الألق، به وهو شمسها. يدخل باسم دهشتها، باسم دفق الشبق في شرايينها، ليستحيلا شعلتيْ ضوءٍ يتحدان لينفصلا، و ينفصلان ليتصلا من جديدٍ أبهى و أشدّ نقاءً، ” أنت َ تخطط لهجومٍ أكثر نعومةً “.
“شهادة السرير” هي أنشودة العشق ، أنشودة مطر ” رشدي الغدير” و إن اختلفت الرؤى، و تباعدت الظلال/ الأشكال القديمة، فلكي تحلّ محلّها الأشكال الجديدة:” السرير، النافذة، النوم، النهد، القميص، الماء، الصوت، الاشتعال”. كلّها رموزٌ للمطر، و ذروة البكاء حين لا يتسع السرير للنشوة، ولا تتحقق الغواية، إلا بكامل بُعدها المُختزل،” توغلُ في شعوذتك/ تقدّم لها شجراً يختزل الغواية … “.
يعترف الشاعر باستحالة التمرد على الواقع بأزمته “السريرية”، فالسرير يتمنى لو يتحول سكيناً تفلق راسه و تستقر في قلبه. في سوريالية فجةٍ داكنةٍ، جارحةٍ بسكين الكشف عن المستور. لذا يقبل بدور الشاعر/ المشعوذ كي يهذي، مستفيداً من التصريح الإلهي بدورٍ ما للشعراء، في قيادتهم الغواة و السحرة و القديسين معاً.
هو الشاعر و الساحر معاً، يرتضي لنفسه دور المرجوم كي يرقى بها في سماوات عشقه، الأكبر من بياض سرير، و الأكثر اتساعاً من امتداده ليحتويها ، لا كجسدٍ قاصرٍ عن اللذة، مكبّلٍ بالخوف الموروث و الدهشة الأولى/ نافذة الخطيئة المفتوحة على احتمالات الألم و الندم الدافئ، النافذة / تفاحة الذنب التي التقفتها هذه المرة القطة لا الأنثى.
إنّ “رشدي الغدير” يلهو بنا، ينتقل بنا إلى عالمٍ أجمل. يحلّ فيه المواء محلّ الصراخ، ملامسةُ الأجسادِ بنعومة الفرو و الوبرِ، كما قطتها، وهو، في فراغ الدهشة وامتلاء السرير.
“رشدي” يجبل اللغة على يديه نقيّةً بجمالية ٍ خاصةٍ تتزينُ بالرمز و إن عوّقتهُ واقعيةٌ يبرزها فعل الاقتحام وشدة الخوف/ نزعة الإنسان الغريزية إلى الهرب، و دائماً إلى عوالمنا المخفية في دواخلنا، حيث اللاوعي يخطط لنا ولا نفهم، يحرّضُ ولا نقتحم.
يشركنا الشاعر قسراً في تراجيديا القتل/ الغطرسة الذكورية/ السرير على حساب ضعف الأنثى، حتى في براءتها من الخيل و الليل ، وهذا البياض / الدم.
شبكةٌ من العلاقات المتضادة المتجاذبة، طرفاها اثنان: هي/ الأنثى وهو/ السرير/ الذكر, يمارس سطوته و غطرسته، ويفعل بكامل وعي وقدرة ٍ اكتسبها من الذي انهار جسده عليه فصار هو، يحتمل الفاعلية فهو” يتسع ويمتدّ، ثمّ يضيق كالكفن أو التابوت، أو كسكين”.
السرير — > يشي بنا/ ضيقه بنا/ لفرط قلقه/ أقدامه مغروسة حتى الكاحل/ يدير رأسه بغطرسة من يحكم/ يجيب كمن يسقط الدين/ كمن يعتق الرقاب/ متبجحٌ كمن ينشئ النخل و الليل بين يديه/ يقول:” أعرفك “.
السرير في النص يتخذ صفاتٍ ثلاثاً: ففي الأولى هو الجلاد، وفي الثانية هو الرقيب المحايد، وفي الثالثة هو الضحية التابوت.
موت المكان كأنما “رشدي الغدير” يجلد ذاته في انتمائه إلى المكان الأوسع/ سرير الحياة الذي يضيق بعشقه لها، وهي أنثى الرغبة والنار معاً، قطة الرغبات النيئة الدافئة، يعطيها صك براءة من فعل السرير/ فعل الموت، قيامته على يديها في التشظي لأشياء وجودهما المعيقة تحقق رغبتيهما كبشريينِ خارج السرير، خارج الصوت، في الصمت وحده حيث يحلو اللمسُ بدون لمسٍ، حين الهمس وحده صدى اللغة بين حبيبين لا ضدّينِ.
الشاعر/ ذكرٌ آخر، تدلّ أفعاله عليه:
“أتثاءب– > تنهر النهد — > تداعب أزرار القميص — > تنساب — > تنتخبُ لكَ أكثر الشراشف خجلاً”.
هي صورة الذكر الآخر، الذكر القريب إلى أنثويتها، الأضعف عن الفعل، الأقدر على محاكاتها. لقاء أنثى بذاتها في الذكر/ في رحابة العشق و توحّد الرغبة و الفعل، ليصيرا ذكراً بأنثى، و أنثى بسرير يرتجل الفعل كتابعٍ فيبدع.

تحليل سامح كعوش

هناك تعليق واحد: