لم يبق سوى القليل من الوقت لأحكي لكم عن أمي ..أه ..فيما كنت أتكور داخل رحمها كنموذج لزج لشاعر قادم كانت أمي العزيزة تشرب المرمرية مع السكر كلما غازلها والدي وقال لها يا حلوة ..نعم وكان والدي شاباً وسيماً وطويل القامة ...وكان محترفاً في الغزل (لقد تعلمت منه كل الغزليات الليلة وأنا في رحم أمي ) رغم عصبيته وضجره وادمانه للكتابة والسفر وجمع الأوجاع اليومية وتعليقها على جبينه كندب صغيرة جداً ..وكانت أمي تتأمل نفسها في عيونه كل مساء وهو يخبرها عن عراكه المستمر مع أحفاد جده (بعد أربعين سنه سألقن أحفاد جده دروساً لن ينسوها ) وكأسفنجة وفية كانت أمي تمتص حزنه وغضبه الندي بنهم كبير..
.
.
...(لقد كانت أمي تتحدث عن الله كثيراً وأنا في رحمها ) وكنتُ بيقين النطف الشعرية أعلم أنها سعيدة ..قلت في نفسي وأنا جنين : ما أجمل عالمهم في الخارج أنا حقا متشوق للخروج ورؤية أمي وأبي ورؤية الله الذي تحبه أمي ..ولأنني جنين يسبح في مكان مظلم كانت مخيلتي بسيطه ولا أعرف من هذه الدنيا غير الحبل السري الموصول بي ..
.
.
وعندما خرجت من رحم أمي واجهتني الحياة بصفعة قوية على قفاي وأنا معلق من قدمي مثل خفاش صغير أخرجت على أثرها كل السوائل والبكاء والصراخ المحتقن في قصبتي الهوائية ..قلت في نفسي : اللعنة هذا فيه مضيعة للوقت ..كبر أنفي وقضيبي وكبرت أفكاري السطحية مع الوقت وأصبحت رجلاً يغازل النساء في السوق وعلى قارعة المدارس وفي المكتبات العامة وفي نفس الوقت يبحث عن الله في كل مكان ..مات أبي وترك أمي وحيدة مشغولة بمرضها وبكليتها المعطوبة ..كانت قبل رحيل والدي تبتسم للشفق ولزهور المساء النائمة على كتفها كيقطينات بلورية ... مات والدي .. ومعه مات شغفها بالحياة ...وأنا ما زلت أبحث عن الله ...
.
.
كان عمري تقريبا ثلاثة عشر سنة عندما رغبت حقاً في رؤية الله .. في البداية كانت نبرات صوتي منخفضة داخلي ثم تصاعدت تدريجيا توسلت إليه قائلا يارب ..ياربي ورب كل شيء أريد رؤيتك الآن فالسماء صافية حتى إني لم استطع فتح عيني فيها لفرط وضوحها ..الغيوم في مكانها الصحيح والمساحة في المنتصف خالية دعني أشاهدك يا رب لن أخبر أحدا غير أمي التي تهتكت ركبتها لفرط الصلاة ..يا رب لا يوجد بيننا شيء ولن نجد فرصة مناسبة مثل هذه الفرصة دعني أشاهدك أرجوك .. يا الله دعني أشاهدك فأمي بخير لقد نبت لها جناحان من الحزن وطارت ولم تعُد ..حتى الصحون والملاعق التي كانت تغني لها كل يوم لم تعرف مكانها..فدعني أشاهد نورك ...لكن الله لم يأبه بي ..ربما لأنني كنت طفلاً صغيراً وغبي جداً ...
.
.
وبدأت رحلتي الجديدة بعيدا عن أبي ورأيت سوائل تخرج من أرحام النساء ..ورحت أجمع نفسي في جيب بنطالي على شكل ورقات ملونة رغم سقوط أجزاء مني خارج جيب بنطالي ..كانت تنتابني حالات البكاء والصراخ قبل النوم وبعده وعندما همست بأسم والدي الميت وحاولت انتشاله بلطف من جهنم .. طردتني أمي من البيت ..ثم أمسكت بيديها المرتجفتين وتذكرت أن أمي مدينة صغيرة نبت لها جناحان وطارت ثم بصقت سكانها في وجهي ... أمي كنتٌ أراكِ تضربين جسدي بأقدامكِ وكنتٌ كخلخالكِ القديم... أه يا أمي لماذا تطرديني من البيت كلما حاولت رؤية الله بشكل واضح ....
.
.
كل ما في الأمر أن طفلاً صغير أراد رؤية الله ....فقط
.
.
.
رشدي الغدير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق