.قلت للنادل خذ القهوة عن الطاولة .. واسأل السيد الذي أمامي ماذا يشرب .... رغم أنه لم يكن هناك أحد أمامي ... سأل النادل الكرسي قال له : ماذا تشرب يا سيدي ... التفت النادل وقال لي إن السيد قال أنه لا يريد شيئاً ... قلت للنادل : أيها الأحمق أنا أعلم انه لا يريد شيئاً فهو والدي الميت منذ خمسة أشهر .... أبي أنت ميت كيف يمكن لك أن تكون موجوداً في كل مكان تقريباً .. ألا يجدر بك البقاء في قبرك مثل كل الأموات في العالم ... أبي قلت لك قبل ثلاثين سنة أنني أريد بقرة ... بقرة واحدة فقط ... لماذا لم تشتري لي بقرة يا أبي .... اللعنة هذا فيه مضيعة للوقت....
.
.
أبي أنت ميت ؟؟ ... ما الذي جاء بك إلى غرفتي الليلة ؟! .. المفترض أن تكون مشغولا بأمور أخرى .. كالتحدث مع ملائكة الحساب حول مصيرك القادم ... أو أن تقنعهم بنظرياتك الأدبية حول التفككية والبنيوية و موت المؤلف في القصيدة ... أبي أرجوك عد إلى قبرك ودعني أطارد الخيبات في عالم الأحياء ... منذ موتك يا أبي وأنا أكتب قصائد باهتة لا تلمع ولا تعجب الناظرين ... كما أنني بت أتنفس بنفس طريقتك القديمة كلما أشعلت سيجارة عرجاء تنكر فمي ... لماذا تعود لتقف أمامي هكذا وتبتسم ... حسناً أنت بكل تأكيد مشتاق لأمي ولا تعرف مكانها ... هي في المستشفى موصولة إلى أسلاك نحاسية وتحقن كل يوم بمواد كيماوية فقط ليستمر قلبها بالنبض ... لكنها ما زالت تحبك فلا تقلق ... سأقول لها أنك بخير وصامت كما كنت دائما ... لو كنت مكانك يا أبي لأقتنصت الفرصة وتعرفت على النساء الميتات في المقبرة ... ثمة نساء نائمات في قبورهن يشعرن بالوحشة ... أبي هل لازلت ذلك الرجل الوسيم الذي يضحك من منظر الشرطة في نقاط التفتيش ... كلما تسربل الخوف في عيونهم .... أبي هل ما زلت تضحك دون صوت وتحاول استدعاء الفرح الذي يثبت للفراغ والسكون أنك المنذور للذاكرة كلها .... حسناً يمكنك البقاء في غرفتي ... هذا لا يزعجني اطلاق ... أه نسيت أن اخبرك أنني مازلت أريدك أن تشتري لي بقرة .... بقرة واحدة فقط ....
.
.
أبي ...الحمدلله الذي لم يخلق من ضلعي امرأة لأبحث عنها.... الحمدلله الذي الهمني رشدي وجعلني أستطيع ودون عناء يُذكر أن أتخيل المكان الذي سأموت فيه ... والجنازة التي سيحضرها كل من لم أعرفهم في حياتي لكنهم يعرفونني من خلال كتاباتي كلهم ... النادلات المتقاعدات و مضيفات الخطوط الجوية القطرية و مقدمات برامج الأطفال و سيدات المجتمع وربات البيوت السمينات القصيرات اللواتي تملأ ظهورهن وأفخاذهن كدمات زرقاء .. وكل من لم يقابلني او اقابله في حياتي الحقيرة السافلة القصيرة الباردة القبيحة .... الحمدلله الذي منحني نعمة الاكتئاب النفسي المستمر ومنذ طفولتي المبكرة ... حتى يتسنى لي إنهاء حياتي في أي وقت أختاره .... كان بإمكاني أن أموت قبل سنة لكنني أجلت موتي وقررت البقاء معكم لفترة مؤقتة قادمة .... فقط هاتوا لي بقرة ... بقرة واحدة فقط ....
.
.
رشدي الغدير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق